أبي , كم أشتاقك يا قرة العين ,
مازلت بعيدة عن واقعي الذي يذكرني بفراقك , لاحتضن ذكرياتي معك
فلم تكن أباً فحسب, كنت طفلاً , أهديه محبتي وعاطفتي , فقد أضعف جسدك المرض
وأقعدك كبر السن حيث مكانك , لأحتضنك ليل نهار بيدي وروحي وقلبي
اعتدت سماع صوتك , في كل وقت , ليل او نهار , حتى والجميع نيام , كنت أسمعك
فتنتشي روحي بسماع اسمي على لسانك منادياً , وتنتشي الروح أكثر حينما أسمع منك كلمات الرضا ودعوات تفرح القلب وتهون عليه كل مرار
كانت مواعيد دواؤك لا تغيب عن بالي , والآن كلما حان وقتها شعرت بغصة
تعتصر صدري , ألمٌ ينخر في أجزاء جسدي الناحل فيذيبه ناراً
كنت أرى في عينيك خوفاً علي , وكأنك تخشى الفراق
ليس خوفاً من الموت ولكن خوفاً علي من بعدك , وبعد وفاتك تيقنت من ذلك الخوف
فقد تذكرت تلك الآية التي رددتها على مسمعي قبل وفاتك بيوم
من سورة يوسف
( فالله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين )لأعلم أنك استودعتني وأمي الله لأننا من بعدك سنعاني الوحدة
بين جدران هذا البيت , ووثقت بحفظه لنا , ووثقت برحمته لك
سبحانك ربي , هكذا فهمت الآية بعد وفاتك يا أبي ,
رغم أنه قبل وفاتك ظننتها كأي آية تتلوها في لحظات نسيانك للواقع
ورجوع ذاكرتك للماضي , كأي رجل كبير السن , يهذي بذكريات الماضي
ويختلط على لسانه كل ما في قلبه وذاكرته
أبي الحبيب , ثق بأني بخير , غير ان اشتياقي إليك يزداد يوماً بعد يوم
ثق بأني بخير غير أن حنين جارف يحملني حيث قسمات وجهك
وتجاعيد يديك , وشعرك الأبيض ...
ثق بأني أتذكر كلماتك قبل وفاتك بيوم
الصبر , الصبر, غير أني متعبةٌ حد الإعياء والسقم
ليس فراقك وحده ما يتعبني يا أبي, فقد ضاقت علي الدنيا وحاصرتني بهمومها
أتعلم يا قرة العين أكثر ما يؤلمني , أني أشعر برغبة كبيرة في الحديث إليك
كم تجثم عبارات على قلبي وصدري , لا يشأ لساني بالبوح بها إلا إليك
ماذا أخبرك يا أبي ؟ ... وانا ملأى بطعنات زمن لا يرحم
ماذا أخبرك والروح اتعبها ظلمٌ وخوف وهوانٌ على الناس
ماذا أخبرك وقد حملني البعض ما لا أستطيع حمله ...
ماذا أخبرك ومشاعري مضطربة وروحي معذبة وعقلي حائر ,
ولا أدري ما مصيري ولا إلى أي اتجاه أسير
إلى من أستمع , وقد تشعبت الأصوات من حولي , وتشتت ذهني ,
لم يعد لي ملجأ سوى باب السماء أقصده ,وأصدح ب... لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
العجيب أني واثقة من صمتي في حضرتك يا أبي , وكتمان دمعتي في لحظات لقائي بك
فلم تكن ترى مني سوى ابتسامتي , أما همومي فقد كانت لي وحدي
لكن لا أدرى لمَ الآن أود لو أخبرتك بكل ما أقاسي ...
أيها الراحل ~
كم أحن للاستماع لحديثك حينما كنت أجلس إلى جانبك على سريرك الذي لطالما شهد مواطن دموعي وفرحتي بابتسامتك ,
ياه , هذا المكان أسطورة ذكريات أعيشها كل يوم
وجبتي الغذاء والعشاء , كنت تتناولهما من يدي , والآن
أشعر بالندم لان امي من كانت تفطرك ليتني كنت كذلك معك لحظات الفطور , لكن سيكون من الصعب أن أواصل السهر والاستيقاظ في موعد فطورك
أما الدواء فهو ذكرى أخرى دعني أسردها إليك يا روحاً تسكن روحي , وقلباً ينبض
لتحيا به حياتي , أتذكرأحد الأدوية التي كنت تتناولها يوماً بعد يوم
فكنت أضع اشارة في الرزنامة امام الأيام التي ساعطيك بها الدواء
كنت قد وضعت الإشارات على أيام شهر مايو كاملة لكنك لم تتناول هذا النوع سوى يومين منه
كلما رأيت الرزنامة والإشارات فاضت روحي شجناً وألماً
أما باقي الأنواع كنت تتناولها كل يوم , أتذكر ذاك النوع الذي كنت تتناوله قبل العشاء بساعة ؟
كلما حانت لحظات الغروب ذكرني الغروب برحيلك ودقات الساعة بموعد دوائك ...
إن نسيت ذكرى لن أنسى اخرى
وإن غابت عن بالي لحظة تسرد الذاكرة شريط الذكريات
أيها الراحل~
مازال صوتك يتردد صداه في أذني , لان وجباتك خفيفة لا تقوى معدتك
على تناول كمية كبيرة في وقتها
فقد كنت بينها تطلب كوباً من المرمية أو الينسون وقطعاً من البسكويت
أحضرهما , فتأبى أن تأكل بنفسك رغم استطاعتك ذلك , لكنك تفضل أن أطعمك بيدي
كم أشتاق لتلك اللحظات , وفي كل جزء تأكله أرى ابتسامتك
وأسمع منك دعوات تخفف عني ما ألاقي في دنيتي
الآن فهمت سر ابتسامتك يا أبي , ربما هي
ارتياحاً بأن الله قد سخر لك من يكون بجانبك في هذه السن
اما بالنسبة لي فهي
قوة دافعة تمنحني إياها خاصة الآن بعد رحيلك تعينني على
تحمل مصاب هذا الزمن ؛ لأدرك بأنه مهما كان الأمر لن أنسى ابتسامتي...
[ربِ اغفر لأبي وارحمه وأسكنه الفردوس الأعلى واجمعني به حيث لا فراق]